" 1 "
"
الوداع الأخير "
" قطعة من أرض مصر "
" واوات "
بداية أكتوبر عام 1963
"إقتربت سَّاعَة
الصّفْر.. وحان موعد الرَحيل عن أرض الأجداد.. ولم يبقى سوى القليل من الأيام المعدودة..
والأهالى حائرون.. ومنتظرون هذة اللحظة الموجعة المؤلمة.. الحزينة القاسية.. لا
يعرفون شيئاً عن موطنهم الجديد سوى أسمه المُخيف المُرْعِب المعروف بـوادى الجن
والأشباح.. "شعيط ومعيط".
أحاطت أركان القرية بنجوعها أقدام الأغراب والبهوات والأفندية.. وهم يرتدون زيهم الأفرنجى من البدل السوداء.. والقمصان البيضاء.. والطرابيش الحمراء.. ومن بينهم الكثيرون من الموظفون يكتبون.. ويسجلون.. ويحصرون.. كل ما هو موجوداً هنا من أفراد ومنازل وأطيان على تلك الدفاتر والكشوف والسجلات.. وكأن القرية كلها بما فيها وعليها عهده أو أمانة تسلم وترد الى أصحابها مرة أخرى.. يحاولون أن يهيئون حالة الأهالى النفسية ويعاونهم على نقل ما تبقى من ممتلكاتهم وأغراضهم إستعداداً على الرحيل.. فحركاتهم دائمة ومستمرة لا تهدأ ليلاً أو نهاراً.. وعيونهم ساهرة لا ترى ظلام النوم إلا غفلة.. فهم دائماً تغمرهم مشاعر اللهفة والشوق ينتظرون ما بين لحظة وأخرى صدور الأوامر من القادة أوالرؤساء.
أحاطت أركان القرية بنجوعها أقدام الأغراب والبهوات والأفندية.. وهم يرتدون زيهم الأفرنجى من البدل السوداء.. والقمصان البيضاء.. والطرابيش الحمراء.. ومن بينهم الكثيرون من الموظفون يكتبون.. ويسجلون.. ويحصرون.. كل ما هو موجوداً هنا من أفراد ومنازل وأطيان على تلك الدفاتر والكشوف والسجلات.. وكأن القرية كلها بما فيها وعليها عهده أو أمانة تسلم وترد الى أصحابها مرة أخرى.. يحاولون أن يهيئون حالة الأهالى النفسية ويعاونهم على نقل ما تبقى من ممتلكاتهم وأغراضهم إستعداداً على الرحيل.. فحركاتهم دائمة ومستمرة لا تهدأ ليلاً أو نهاراً.. وعيونهم ساهرة لا ترى ظلام النوم إلا غفلة.. فهم دائماً تغمرهم مشاعر اللهفة والشوق ينتظرون ما بين لحظة وأخرى صدور الأوامر من القادة أوالرؤساء.
أما الأهالى لا حول
لهم ولا قوة.. ينظرون إليهم فى دهشة.. ويحيط بهم الذهول والإستغراب.. يتأملون فى
كل شىء من حولهم قبل الرحيل والفراق.. يحملون ما يستطيعون حمله ما بين الأطفال
الصغار الرضع وغيرها من الأغراض و الحقائب.. الحيونات والطيور.. فالكل مُودع
ومُهاجر.. تارك ومُفارق.. فلقد تحولت قُبلة الحياة فى هذة المنطقة بأكملها الى
قُبلة الوداع الأخير المشئوم بلا رجعة.. حتى إمتلاءت مياة النهر بالإحزان والأوجاع
وزادت بدموع أهلها الكرام، فقد تقطعت قلوبهم الى أشلاء متناثرة ما بين هنا وهناك، لتصبح
ملائكة النهر شاهد عيان على حزنهم المغمور تحت قاعه، وكأن أرواحهم جميعاً تتجسد فى
شخص واحد تُسلب منه روحه شيئاً فشيئاً لتصَلَ إلى الرَّمَقِ الأَخير لتفارق الحياة
عن عمر يناهز آلاف السنين لتصبح فى النهاية جثة هامدة مغموره.. وكأن السماء
إمتلاءت بتلك الغمامة السوداء لتمطر على هؤلاء البشر سحابة الفراق.. ليأتى إليهم
ذلك الشبح المُخيف الذى يحمل إسماً دائماً كانوا يخشوه.. نعم إنه شبح الرحيل.. جاء
فجأةً لينزع تلك الروح التى إستوطنت فيهم.. تاركاً لهم مساحة صغيرة من الذكرى
الدامعة.
وإذا بتلك السُفن العالية
تتحرك فى هذا الأسطول النهرى الكبير من مرساها بالقاهرة لتتجة وسط أمواج النهر
الهادئة نحو أحضان الجنوب حاملة أعلام الجمهورية العربية المتحدة وهى ترفرف على ساريتها
لتُطلق جَرْس الإنْذار الأخير عند مرورها على كل قرية من القرى النوبية الموجوده على
جانبى النهر يميناً ويساراً، تمهيداً لبدأ تنفيذ أكبر عملية نقل نهرية فى تاريخ
الجمهورية.
فنظرت إحدى السيدات
من المُهاجرين الى قريتها بـ"دابود"، التى نشأت فيها منذ ظهورها على وجة
الدنيا، فهى تُعد أولى قرى التهجير على هذة الخريطة الطويلة العريضة.. بنظرة الوداع
الأخير قبل أن تغادرها وتفارقها الى الأبد المحتوم، وبدأت دموعها تتساقط من بين
تلك الجفون مُزرفةً على الخُدود بلا إستئذان، كاتساقط قطرات الندى على أوراق الزهور،
ربما لم تستطع رؤياها مستقبلاً، وإبنتها الرضيعة من بين أحضانها تضمها إليها بقوة،
تحاول أن تهدئ من روعها، إلا إنها كانت تبكى بكاءً شديداً وترتجف خوفاً وهى تصرخ فى
وجهها.
وبدأت تسترجع ذكرياتها وما تبقى من ماضيها الجميل التى عاشت فيه طوال فترة
حياتها، وأخذت تفتش وتفتش فى دفاتر أفكارها، فقد تركت لها تلك الذكريات بصماتها
على كل جوانب القرية، فكل فرد فيها كان له الكثير من القصص والحكايات، فمن السهل أن
ينقل الإنسان من وطنه ولكن من الصعب أن ينتزع وطنه من وجدانه وذكرياته.. وتتسائل أين
الفرحة التى كانت تعُم هذا المكان ولا تفارقه أبداً؟!!.. أين الوجوه البشوشة
الصافية التى لا تعرف سوى الفرح والسُرُور ولا تعرف للحزن معنى؟!!.. فلم تجد لسؤالها
إجابة.. فإنها لم ترى شيئاً هنا سوى ملامح تلك الوجوه الغضبانة
المُتألِمة.. الحزينة البائسة.
ذات المكالمات والإتصالات الهاتفية على مكاتب القادة والرؤساء وأصحاب
القرار.. وأصبح مسرح العلميات هنا واسع المدى بعيد الأطراف موزع ما بين القاهرة
وأسوان.. النوبة وكوم أمبو.
تمنيت الجَدَّة فى تلك اللحظة أن تفارف الروح هنا قبل أن تذهب
بعيداً عن مسقط رأسها.. وقبل أن تصل سطح مياة النهر جريد تلك النخيل الشامخة ومأذن
المساجد العالية.. لتذهب معهم جميعاً الى الطريق المحتوم لتعيش وتستقر على أرض
سكنها الجن والأشباح قبل أن يسكنها البشر.. وكأن فيضانات هذا النهر المتتالية تُرسل
الي تلك المنطقة جنودها فى كل مرة لتخطفُ قرى تلو الأخرى إما غضباً أو حفاظاً على
تلك الجوهورة المكنونة بما فيها من أرض ومنازل وأرث حضارى.. فيضمها هذا الفيضان
وسط أحضان مياهه وبين ذراع جباله المسلسلة المنحدرة من الشرق الى الغرب.. وكأنها
تشعر بأن هذة البقعة السمراء ستتلاشى وتُمحى من الوجود الى الأبد إذا تُركت
لغيرهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق